سورة الطارق - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطارق)


        


{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)}
اعلم أنه تعالى أكثر في كتابه ذكر السماء والشمس والقمر لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة، وأما الطارق فهو كل ما أتاك ليلاً سواء كان كوكباً أو غيره فلا يكون الطارق نهاراً، والدليل عليه قول المسلمين في دعائهم: نعوذ بالله من طوارق الليل وروي أنه عليه السلام: نهى عن أن يأتي الرجل أهله طروقاً والعرب تستعمل الطروق في صفة الخيال لأن تلك الحالة إنما تحصل في الأكثر في الليل، ثم إنه تعالى لما قال: {والطارق} كان هذا مما لايستغنى سامعه عن معرفة المراد منه، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق} قال سفيان بن عيينة: كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الرسول به وكل شيء فيه ما يدريك لم يخبر به كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] ثم قال: {النجم الثاقب} أي هو طارق عظيم الشأن، رفيع القدر وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ويوقف به على أوقات الأمطار، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: إنما وصف النجم بكونه ثاقباً لوجوه:
أحدها: أنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل: درئ لأنه يدرؤه أي يدفعه.
وثانيها: أنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء.
وثالثها: أنه الذي يرى به الشيطان فيثقبه أي ينفذ فيه ويحرقه.
ورابعها: قال الفراء: {النجم الثاقب} هو النجم المرتفع على النجوم، والعرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعاً: قد ثقب.
المسألة الثانية: إنما وصف النجم بكونه طارقاً، لأنه يبدو بالليل، وقد عرفت أن ذلك يسمى طارقاً، أو لأنه يطرق الجني، أي صكه.
المسألة الثالثة: اختلفوا في قوله: {النجم الثاقب} قال بعضهم: أشير به إلى جماعة النحو فقيل الطارق، كما قيل: {إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وقال آخرون: إنه نجم بعينه، ثم قال ابن زيد: إنه الثريا، وقال الفراء: إنه زحل، لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات، وقال آخرون: إنه الشهب التي يرجم بها الشياطين، لقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10].
المسألة الرابعة: روي أن أبا طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتحفه بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم ناراً، ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا؟ فقال: هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله، فعجب أبو طالب، ونزلت السورة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: {لَّمّاً} قراءتان إحداهما: قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع والكسائي، وهي بتخفيف الميم والثانية: قراءة عاصم وحمزة والنخعي بتشديد الميم.
قال أبو علي الفاسي: من خفف كانت {إن} عنده المخففة من الثقيلة، واللام في {لَّمّاً} هي التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من إن النافية، وما صلة كالتي في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 159] {وعما قليل} [المؤمنون: 40] وتكون {إن} متلقية للقسم، كما تتلقاه مثقلة.
وأما من ثقل فتكون {إن} عنده النافية، كالتي في قوله: {فيما إِن مكناكم} [الأحقاف: 26] و{لَّمّاً} في معنى ألا، قال: وتستعمل {لَّمّاً} بمعنى ألا في موضعين أحدهما: هذا والآخر: في باب القسم، تقول: سألتك بالله لما فعلت، بمعنى ألا فعلت.
وروى عن الأخفش والكسائي وأبي عبيدة أنهم قالوا: لم توجد لما بمعنى ألا في كلام العرب.
قال ابن عون: قرأت عند ابن سيرين لما بالتشديد، فأنكره وقال: سبحان الله، سبحان الله، وزعم العتبي أن {لَّمّاً} بمعنى ألا، مع أن الخفيفة التي تكون بمعنى ما موجودة في لغة هذيل.
المسألة الثانية: ليس في الآية بيان أن هذا الحافظ من هو، وليس فيها أيضاً بيان أن الحافظ يحفظ النفس عماذا.
أما الأول: ففيه قولان: الأول: قول بعض المفسرين: أن ذلك الحافظ هو الله تعالى.
أما في التحقيق فلأن كل وجود سوى الله ممكن، وكل ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح وينتهي ذلك إلى الواجب لذاته، فهو سبحانه القيوم الذي بحفظه وإبقائه تبقى الموجودات، ثم إنه تعالى بين هذا المعنى في السموات والأرض على العموم في قوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وبينه في هذه الآية في حق الإنسان على الخصوص وحقيقة الكلام ترجع إلى أنه تعالى أقسم أن كل ما سواه، فإنه ممكن الوجود محدث محتاج مخلوق مربوب هذا إذا حملنا النفس على مطلق الذات، أما إذا حملناها على النفس المتنفسة وهي النفس الحيوانية أمكن أن يكون المراد من كونه تعالى حافظاً لها كونه تعالى عالماً بأحوالها وموصلاً إليها جميع منافعها ودافعاً عنها جميع مضارها.
والقول الثاني: أن ذلك الحافظ هم الملائكة كما قال: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] وقال: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18 17] وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين * كِرَاماً كاتبين} [الإنفطار: 11 10] وقال: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11].
وأما البحث الثاني: وهو أنه ما الذي يحفظه هذا الحافظ؟ ففيه وجوه:
أحدها: أن هؤلاء الحفظة يكتبون عليه أعماله دقيقها وجليلها حتى تخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً.
وثانيها: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} يحفظ عملها ورزقها وأجلها، فإذا استوفى الإنسان أجله ورزقه قبضه إلى ربه، وحاصله يرجع إلى وعيد الكفار وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نعد لهم عداً} [مريم: 84] ثم ينصرفون عن قريب إلى الآخرة فيجازون بما يستحقونه.
وثالثها: إن كل نفس لما عليها حافظ، يحفظها من المعاطب والمهالك فلا يصيبها إلا ما قدر الله عليها.
ورابعها: قال الفراء: إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى المقابر، وهذا قول الكلبي.
واعلم أنه تعالى لما أقسم على أن لكل نفس حافظاً يراقبها ويعد عليها أعمالها، فحينئذ يحق لكل أحد أن يجتهد ويسعى في تحصيل أهم المهمات، وقد تطابقت الشرائع والعقول على أن أهم المهمات معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، واتفقوا على أن معرفة المبدأ مقدمة على معرفة المعاد، فلهذا السبب بدأ الله تعالى بعد ذلك بما يدل على المبدأ.


{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الدفق صب الماء، يقال: دفقت الماء، أي صببته وهو مدفوق، أي مصبوب، ومندفق أي منصب، ولما كان هذا الماء مدفوقاً اختلفوا في أنه لم وصف بأنه دافق على وجوه:
الأول: قال الزجاج: معناه ذو اندفاق، كما يقال: دراع وفارس ونابل ولابن وتامر، أي درع وفرس ونبل ولبن وتمر، وذكر الزجاج أن هذا مذهب سيبويه الثاني: أنهم يسمون المفعول باسم الفاعل.
قال الفراء: وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم، يجعلون المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب النعت، كقوله سر كاتم، وهم ناصب، وليل نائم، وكقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: 7] أي مرضية الثالث: ذكر الخليل في الكتاب المنسوب إليه دفق الماء دفقاً ودفوقاً إذا انصب بمرة، واندفق الكوز إذا انصب بمرة، ويقال في الطيرة عند انصباب الكوز ونحوه: دافق خير، وفي كتاب قطرب: دفق الماء يدفق إذا انصب الرابع: صاحب الماء لما كان دافقاً أطلق ذلك على الماء على سبيل المجاز.
المسألة الثانية: قرئ الصلب بفتحتين، والصلب بضمتين، وفيه أربع لغات: صلب وصلب وصلب وصالب:
المسألة الثالثة: ترائب المرأة عظام صدرها حيث تكون القلادة، وكل عظم من ذلك تريبة، وهذا قول جميع أهل اللغة.
قال امرؤ القيس:
ترائبها مصقولة كالسجنجل ***
المسألة الرابعة: في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة.
وقال آخرون: إنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه، واحتج صاحب القول الثاني على مذهبه بوجهين:
الأول: أن ماء الرجل خارج من الصلب فقط، وماء المرأة خارج من الترائب فقط، وعلى هذا التقدير لا يحصل هناك ماء خارج من بين الصلب والترائب، وذلك على خلاف الآية الثاني: أنه تعالى بين أن الإنسان مخلوق {مِن مَّاء دَافِقٍ} والذي يوصف بذلك هو ماء الرجل، ثم عطف عليه بأن وصفه بأنه يخرج، يعني هذا الدافق من بين الصلب والترائب، وذلك يدل على أن الولد مخلوق من ماء الرجل فقط أجاب: القائلون بالقول الأول عن الحجة الأولى: أنه يجوز أن يقال للشيئين المتباينين: أنه يخرج من بين هذين خير كثير، ولأن الرجل والمرأة عند اجتماعهما يصيران كالشيء الواحد، فحسن هذا اللفظ هناك، وأجابوا عن الحجة الثانية: بأن هذا من باب إطلاق اسم البعض على الكل، فلما كان أحد قسمي المني دافقاً أطلق هذا الاسم على المجموع، ثم قالوا: والذي يدل على أن الولد مخلوق من مجموع الماءين أن مني الرجل وحده صغير فلا يكفي، ولأنه روي أنه عليه السلام قال: «إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكراً ويعود شبه إليه وإلى أقاربه، وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه»، وذلك يقتضي صحة القول الأول.
واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية، فقالوا: إن كان المراد من قوله: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك، لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، فيصير مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء، ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه، وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف، بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ، والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ، ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولاً في عينيه، وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف، لأن مستقر المني هو أوعية المني، وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين، وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف، لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك الجواب: لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ، والدماغ خليفة وهي النخاع وهو في الصلب، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن وهو التريبة، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر، على أن كلامكم في كيفية تولد المني، وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف، وكلام الله تعالى أولى بالقبول.
المسألة الخامسة: قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل، لوجوه:
أحدها: أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر، فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار.
وثانيها: أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره، فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم.
وثالثها: أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة، فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى.
ورابعها: وهو أن الاستدلال بهذا الباب، كما أنه يدل قطعاً على وجود الصانع المختار الحكيم، فكذلك يدل قطعاً على صحة البعث والحشر والنشر، وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين، بل في جميع العالم، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنساناً سوياً، وجب أن يقال: إنه بعد موته وتفرق أجزائه لابد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقاً سوياً، كما كان أولاً ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ، فرع عليه أيضاً دلالته على صحة المعاد فقال:


{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره، والسبب فيه وجهان الأول: دلالة خلق عليه، والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني: أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظاً، ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه، وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات، هو الله سبحانه وتعالى، فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور.
المسألة الثانية: الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته، والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع؟ فيه وجهان أولهما: وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان، والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حياً، وهو كقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وثانيهما: أن الضمير غير عائد إلى الإنسان، ثم قال مجاهد: قادر على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب.
وروي أيضاً عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل، وقال مقاتل بن حيان: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة، واعلم أن القول الأول أصح، ويشهد له قوله: {يَوْمَ تبلى السرائر} أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة، ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة، وصف حاله في ذلك اليوم فقال:

1 | 2